أمريكا والسياسة الخارجية- نفوذ إسرائيل وتحديات الواقع العربي
المؤلف: صدقة يحيى فاضل11.20.2025

تُعد الولايات المتحدة الأمريكية اليوم حاضنة العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ففي ربوعها ازدهرت هذه الحقول المعرفية على يد علماء أمريكيين، وشهدت تطورات جمة في العصر الحديث. قلما تجد جامعة أمريكية، سواء كانت متوسطة أو كبيرة، لا تحتضن قسماً أكاديمياً متخصصاً في العلوم السياسية، يرفد المجتمع سنوياً بعشرات الخريجين، من الأمريكيين وغيرهم، الذين يتقلدون مناصب مختلفة في المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص، ولا سيما في مجالات العلاقات العامة والتجارة الدولية. وتمتلئ أرجاء أمريكا بمئات من مراكز الأبحاث العلمية والاستراتيجية التي تغطي بقاع العالم المختلفة، من خلال دراسات معمقة وتحليلات مستفيضة، وتنشر نتائجها على نطاق واسع. لذا، يحق لأمريكا أن تُلقب بـ "مهد علم السياسة" في العصر الحديث. ويوجد في أمريكا الآن العشرات، بل المئات، من العلماء والمفكرين والفلاسفة السياسيين اللامعين، الذين ذاع صيتهم في الآفاق، أمثال الراحل هنري كيسنجر، وجوزيف ناي، وجون ميرشايمر، وغيرهم الكثير.
ورغم هذه القدرات العلمية الهائلة، والإمكانات الاستخباراتية الضخمة، والثقافة السياسية الواسعة، غالباً ما تشهد السياسة الأمريكية، وخاصة الخارجية منها، تخبطاً واضحاً، وانحرافاً يميناً ويساراً، مما يسفر عن خيبات أمل وخطايا فادحة، على الصعيدين الأمريكي والعالمي على حد سواء. فمعظم هذه السياسات أدت إلى وقوع كوارث إنسانية جسيمة، خاصة في المنطقة العربية، وهي كوارث ما كان لها أن تقع لولا التهور والافتراء والازدواجية في المعايير، وتغليب مصالح فئة معينة على المصالح العامة، وفي مقدمة هذه المصالح، المصالح الصهيونية الإجرامية. فعلى سبيل المثال، خاضت الحكومة الأمريكية، منذ تأسيسها عام 1776م، ما يقارب المئة حرب ضروس خارج حدودها، ولم تكن أغلب هذه الحروب ضرورية، أو تخدم المصلحة العامة الأمريكية الحقيقية. يضاف إلى ذلك ضعف الوعي السياسي لدى عامة الشعب الأمريكي، وتدني مستوى ثقافتهم السياسية، إذ يقتصر اهتمام غالبية الأمريكيين على السياسة الداخلية لبلادهم، ولا يعيرون اهتماماً كبيراً لما يجري في العالم من حولهم.
ومن الأمثلة الأخرى الدالة على ذلك، الهيمنة الصهيونية على أغلب صناع القرار الأمريكيين، وتسخير هذه الحركة لحكومة الولايات المتحدة لتنفيذ ودعم احتلالها وإرهابها وإجرامها بحق الشعب العربي الفلسطيني، واستجابة الحكومة الأمريكية الكاملة والسخية لهذه المطالب، لأسباب باتت معروفة للجميع. وقد أدى ذلك بالضرورة إلى غضب عارم في أوساط الشعوب العربية والإسلامية، بسبب هذه الهجمة الصهيونية المتسلطة، خاصة على القرارات الأمريكية المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط. كما أثار ذلك استياء العديد من الأمريكيين أنفسهم، الذين طالبوا بوقف هذا التأثير السلبي الذي تمارسه جماعات الضغط الصهيونية على سياسات بلادهم تجاه المنطقة والعالم.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، الكتاب الذي أصدره عام 2006م الأستاذان الجامعيان الأمريكيان: (جون ميرشايمر)، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، و(ستيفن والت)، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، تحت عنوان: "تأثير اللوبي الإسرائيلي على سياسة أمريكا الخارجية". ورغم مرور 18 عاماً على صدور هذا الكتاب، إلا أنه ما زال يحظى باهتمام كبير في الأوساط السياسية الأمريكية وغيرها، لأن معظم ما ورد فيه لا يزال صحيحاً، بل تأكدت صحته بشكل أكبر في الآونة الأخيرة. وقد أورد هذان الباحثان العديد من الأمثلة على مواقف أمريكا تجاه دول المنطقة، والتي تتأثر بضغوط اللوبي الصهيوني، وتنفذ ما يمليه هذا اللوبي، اعتقاداً منه بأنه يخدم مصالح إسرائيل دون سواها...
وفيما يتعلق بأحداث غزة المأساوية، كان لميرشايمر رأي موضوعي حول الحرب الإسرائيلية على غزة؛ حيث صرح في محاضرة نظمها (مركز الدراسات المستقلة) في أستراليا، بأن "أهداف إسرائيل المعلنة من حربها على المدنيين في غزة، هي القضاء على حركة حماس، واستعادة الرهائن الـ 240. إلا أن إسرائيل دولة فصل عنصري، وتسعى إلى إبادة أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين ككل، وقد استغلت مقاومة حماس المحدودة لتحقيق هذا الهدف الشيطاني. فالهدف الأهم لإسرائيل، والذي لا تعلنه، هو التطهير العرقي. وهو ما تتجاهله وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية". وأشار ميرشايمر إلى أن إسرائيل وجدت في مقاومة حركة حماس فرصة لشن حرب إبادة جماعية جديدة.
فإسرائيل ترى أن عملية استعادة الرهائن هي المبرر الأساسي للخروج من هذه الإشكالية، أي ممارسة التطهير العرقي. وكان الهدف هو القضاء على حركة حماس، وقتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. ويقول ميرشايمر: "من الواضح أن الإسرائيليين لن يتمكنوا من هزيمة حركة حماس. ولا أعتقد أنهم كانوا يعتقدون أنهم قادرون على هزيمة حماس، قبل أن يبدأوا هذه الحرب". فمن خلال التطهير العرقي للشعب الفلسطيني في غزة، تحل إسرائيل مشكلتين رئيسيتين من المشاكل الكبرى التي تواجهها. فالهدفان الرئيسيان المعلنان من حرب إسرائيل هما: القضاء على حركة حماس، واستعادة الرهائن. أما الهدفان غير المعلنين، فهما: تدمير قطاع غزة، والإبادة الجماعية لفلسطينيي غزة. ويضيف ميرشايمر: "إن رفض الإسرائيليين، وخاصة نتنياهو، الإفصاح عما ستؤول إليه الأوضاع في غزة بعد توقف إطلاق النار، يدل على أنهم لا يريدون حلاً سوى إخراج الفلسطينيين من غزة، وتطهيرها عرقياً، وذلك عبر قتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين الأبرياء، وحضهم على الخروج، عن طريق قتل أعداد منهم، واتباع سياسة التجويع، وجعل القطاع غير صالح للعيش".
وقال في محاضرته المذكورة إنه كان يرفض وصف ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية، قبل أن تتغير قناعاته، ويتيقن بأن الإسرائيليين متورطون في إبادة جماعية. ثم أردف قائلاً: "إن الإسرائيليين لم ولن يهزموا حركة حماس، ولن يستعيدوا الرهائن، ولن يتمكنوا من تطهير القطاع عرقياً... وإن مستقبل إسرائيل مجهول، وإنها في ورطة عظيمة".
نعم، إن الهدف من حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، هو قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، عبر القصف الجوي والتشريد والتجويع. وقد لا ينجح الكيان الصهيوني في محاولته استعادة الرهائن، ولكنه دمر معظم قطاع غزة، وقتل نسبة كبيرة من سكانها المدنيين الفلسطينيين. ورغم كل ذلك، فإن شعب الجبارين لن يسمح للكيان الصهيوني بالاستئثار بأرضه، وسيستمر في مقاومته الباسلة. فهناك ما يبشر باستعادة الفلسطينيين لوطنهم المغتصب، مهما طال الزمن.
